فصل: فِي الْمُعْتَكِفِ يَمُوتُ وَيُوصِي أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدونة (نسخة منقحة)



.فِي اشْتِرَاءِ الْمُعْتَكِفِ وَبَيْعِهِ:

قِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ: مَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُعْتَكِفِ أَيَشْتَرِي وَيَبِيعُ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِ فَقَالَ: نَعَمْ، إذَا كَانَ شَيْئًا خَفِيفًا لَا يَشْغَلُهُ مِنْ عَيْشِ نَفْسِهِ.

.فِي تَقْلِيمِ الْمُعْتَكِفِ أَظْفَارَهُ وَأَخْذِهِ مِنْ شَعْرِهِ:

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَقُصُّ الْمُعْتَكِفُ أَظْفَارَهُ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا يَدْخُلُ إلَيْهِ حَجَّامٌ يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ، قَالَ فَقُلْنَا لَهُ: إنَّهُ يَجْمَعُ ذَلِكَ فَيُحَرِّزُهُ حَتَّى يُلْقِيَهُ؟
قَالَ: فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي وَإِنْ جَمَعَهُ.
قَالَ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَطَيَّبَ الْمُعْتَكِفُ وَأَنْ يَنْكِحَ وَيُنْكَحَ، فَقِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ حَلْقَ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمَ الْأَظْفَارِ؟
فَقَالَ: لَا إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ.

.فِي صُعُودِ الْمُعْتَكِفِ الْمَنَارَ لِلْأَذَانِ:

قِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ: هَلْ كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَصْعَدَ الْمَنَارَ لِلْأَذَانِ؟
قَالَ: نَعَمْ، قَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْمُؤَذِّنِ.
قَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُ لِلْمُؤَذِّنِ الْمُعْتَكِفِ أَنْ يَرْقَى عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ.
قَالَ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ.
قَالَ: وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي صُعُودِ الْمُؤَذِّنِ الْمُعْتَكِفِ الْمَنَارَ، فَقَالَ مَرَّةً لَا، وَمَرَّةً قَالَ: نَعَمْ، وَجُلُّ مَا قَالَ فِيهِ الْكَرَاهِيَةُ وَذَلِكَ رَأْيِي.

.فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ بِالِاعْتِكَافِ:

قِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ؟
فَقَالَ: قَالَ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ: لَا ثُنْيَا فِي عِتْقٍ وَلَا فِي طَلَاقٍ وَلَا مَشْيٍ وَلَا صَدَقَةٍ فَهَذَا عِنْدِي مِمَّا يُشْبِهُ هَذَا.
وَقَالَ لِي مَالِكٌ: لَا ثُنْيَا إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ، قَالَ فَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ أَنَّ ثُنْيَاهُ فِي اعْتِكَافِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
قِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْتَ إنْ قَالَ: إنْ كُنْتُ دَخَلْت دَارَ فُلَانٍ فَعَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرٍ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ دَخَلَ هَلْ يَكُونُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ أَنْ يَعْتَكِفَ؟
فَقَالَ: نَعَمْ.

.فِي اعْتِكَافِ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَرْأَةِ تَطْلُقُ أَوْ يَمُوتُ عَنْهَا زَوْجُهَا:

قُلْتُ: أَرَأَيْتَ مَنْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ أَوْ لِامْرَأَتِهِ أَوْ لِأَمَتِهِ فِي الِاعْتِكَافِ، فَلَمَّا أَخَذُوا فِيهِ أَرَادَ قَطْعَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؟
فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، قِيلَ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؟
قَالَ: نَعَمْ هَذَا قَوْلُهُ.
قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الْعَبْدَ إذَا جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ الِاعْتِكَافَ فَمَنَعَهُ سَيِّدُهُ ثُمَّ أُعْتِقَ أَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ أَيَكُونُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهُ؟
قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؟
فَقَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا وَسُئِلَ عَنْ أَمَةٍ نَذَرَتْ مَشْيًا إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَصَدَقَةَ مَالِهَا، فَقَالَ مَالِكٌ: لِسَيِّدِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا، فَإِنْ عَتَقَتْ يَوْمًا كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهَا أَنْ تَفْعَلَ مَا نَذَرَتْ مِنْ مَشْيٍ أَوْ صَدَقَةٍ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ إنْ كَانَ مَالُهَا فِي يَدِهَا الَّذِي حَلَفَتْ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا وَقَدْ قَالَ لِي أَوْ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ فِي الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ، نَذْرًا مِنْ نَذْرٍ يُوجِبَانِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَنَّهُمَا إذَا أُعْتِقَا لَزِمَهُمَا ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ أَذِنَ لَهُمَا أَنْ يَفْعَلَا ذَلِكَ فِي حَالِ رِقِّهِمَا فَيَجُوزُ لَهُمَا ذَلِكَ.
قُلْتُ لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْتَ الْمُكَاتَبَ إذَا نَذَرَ الِاعْتِكَافَ أَلِسَيِّدِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ؟
قَالَ: إنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ يَدْخُلُ فِيهِ عَلَى سَيِّدِهِ ضَرَرٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَثِيرًا يَكُونُ فِيهِ تَرْكًا لِسِعَايَتِهِ كَانَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَرَرٌ عَلَى سَيِّدِهِ.
قُلْتُ: وَتَحْفَظُ هَذَا عَنْ مَالِكٍ؟
فَقَالَ: لَا.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَمِنْ ضَرَرِ هَذَا الْمُكَاتَبِ عَلَى سَيِّدِهِ أَنْ لَوْ أَجَزْتُ لَهُ اعْتِكَافَهُ أَشْهُرًا فَعَجَزَ فِيهَا لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُخْرِجَهُ مِنْ اعْتِكَافِهِ.
قُلْتُ لِابْنِ الْقَاسِمِ: مَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمَرْأَةِ تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ؟
فَقَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: أَتَعْتَكِفُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا؟
فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُوضَعُ لِلَّهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ قَالَ: تَمْضِي عَلَى اعْتِكَافِهَا حَتَّى تَفْرُغَ مِنْهُ، ثُمَّ تَرْجِعَ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَتَعْتَدَّ فِيهِ مَا بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا.
قَالَ سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ سَبَقَ الطَّلَاقُ الِاعْتِكَافَ فَلَا تَعْتَكِفْ، وَإِنْ هِيَ طَلُقَتْ وَهِيَ فِي مُعْتَكَفِهَا اعْتَدَّتْ فِي مُعْتَكَفِهَا مَا كَانَتْ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّهَا إنْ حَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَ اعْتِكَافَهَا خَرَجَتْ فَإِذَا طَهُرَتْ رَجَعَتْ حَتَّى تَقْضِيَ اعْتِكَافَهَا.
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إذَا طَلُقَتْ فَلَا تَعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَحِلَّ، مِثْلَ مَا قَالَ رَبِيعَةُ: إنْ سَبَقَ الطَّلَاقُ الِاعْتِكَافَ فَلَا تَعْتَكِفُ.

.فِي قَضَاءِ الِاعْتِكَافِ:

قُلْتُ لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْتَ الْمُعْتَكِفَ إذَا انْتَقَضَ اعْتِكَافُهُ أَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟
قَالَ: نَعَمْ.

.فِي إيجَابِ الِاعْتِكَافِ وَالْجِوَارِ وَمَوْضِعِ الِاعْتِكَافِ:

قُلْتُ لِابْنِ الْقَاسِمِ: مَا الَّذِي يَجِبُ بِهِ الِاعْتِكَافُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟
فَقَالَ: إذَا دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ وَنَوَى أَيَّامًا لَزِمَهُ مَا نَوَى.
قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ نَذَرَ أَيَّامًا يَعْتَكِفُهَا لَزِمَهُ مَا نَذَرَ.
قَالَ مَالِكٌ: وَالِاعْتِكَافُ وَالْجِوَارُ سَوَاءٌ، إلَّا مَنْ نَذَرَ مِثْلَ جِوَارِ مَكَّةَ يُجَاوِرُ النَّهَارَ وَيَنْقَلِبُ اللَّيْلَ إلَى أَهْلِهِ.
قَالَ: فَمَنْ جَاوَرَ هَذَا الْجِوَارَ الَّذِي يَنْقَلِبُ بِهِ اللَّيْلَ إلَى مَنْزِلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي جِوَارِهِ الصِّيَامُ.
قُلْتُ: أَكَانَ مَالِكٌ يُلْزِمُ الرَّجُلَ إذَا جَاوَرَ مَكَّةَ إذَا نَوَى أَنْ يُجَاوِرَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْجِوَارُ بِالنِّيَّةِ؟
فَقَالَ: لَا إلَّا أَنْ يَكُونَ نَذَرَ ذَلِكَ.
فَإِنْ نَذَرَ جِوَارًا وَلَمْ يُرِدْ الِاعْتِكَافَ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُجَاوِرَ كَمَا وَصَفْتُ لَكَ، يَنْقَلِبُ اللَّيْلَ إلَى أَهْلِهِ مِثْلَ مَا يَصْنَعُ الْمُجَاوِرُ لِمَكَّةَ لَزِمَهُ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِنَّمَا جِوَارُ مَكَّةَ أَمْرٌ يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ مِثْلُ الرِّبَاطِ وَالصِّيَامِ.
قُلْتُ: فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا نَذَرَ جِوَارَ الْمَسْجِدِ مِثْلَ جِوَارِ مَكَّةَ فِي غَيْرِ مَكَّةَ؟
فَقَالَ: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي أَيِّ الْبُلْدَانِ كَانَ إذَا كَانَ سَاكِنًا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَاكِنًا فِيهِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي رَسْمِ حَلِفٍ: إنْ نَذَرَ صَوْمًا فِي مِثْلِ الْعِرَاقِ وَشِبْهِهِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ قَرْيَةٌ بِأَنَّهُ يَصُومُ بِمَكَانِهِ الَّذِي نَذَرَهُ فِيهِ.
قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ فِي سَاحِلٍ مِنْ السَّوَاحِلِ مِثْلِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة أَوْ عَسْقَلَانَ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: كُلُّ سَاحِلٍ أَوْ مَوْضِعٍ يُتَقَرَّبُ بِإِتْيَانِهِ إلَى اللَّهِ فَأَنَا أَرَى أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الصِّيَامَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي نَذَرَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ.
قَالَ سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ: كَانَ عَلَى جَدَّتِي نَذْرُ جِوَارٍ سَنَةً لِمَكَّةَ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: إنَّهُ لَا جِوَارَ إلَّا بِالصِّيَامِ اسْتَأْذِنِي زَوْجَكَ فَإِنْ أَذِنَ لَك فَجَاوِرِي.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَقَالَ مَالِكٌ: لِيَعْتَكِف الْمُعْتَكِفُ فِي عَجُزِ الْمَسْجِدِ.
قَالَ: فَقُلْنَا لِمَالِكٍ: أَتَعْتَكِفُ أَهْلُ السَّوَاحِلِ فِي سَوَاحِلِهِمْ وَأَهْلُ الثُّغُورِ فِي ثُغُورِهِمْ؟
فَقَالَ: إنَّ الْأَزْمِنَةَ مُخْتَلِفَةٌ، مِنْ الزَّمَانِ زَمَانٌ يُؤْمَنُ فِيهِ لِكَثْرَةِ الْجُيُوشِ وَيَأْمَنُ النَّاسُ فَيَعْتَكِفُ الْمُعْتَكِفُ رَجَاءَ بَرَكَةِ الِاعْتِكَافِ، قَالَ وَقَدْ تَكُونُ لَيَالٍ يُسْتَحَبُّ فِيهَا الِاعْتِكَافُ، قَالَ فَقِيلَ لَهُ: فَإِنْ اعْتَكَفَ الْمُعْتَكِفُ فِي الثُّغُورِ أَوْ فِي السَّوَاحِلِ وَجَاءَهُ الْخَوْفُ، أَيَتْرُكُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ اعْتِكَافِهِ وَيَخْرُجُ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ: فَإِذَا أَمِنَ أَيَبْتَدِئُ أَمْ يَبْنِي؟
فَقَالَ: بَلْ يَبْنِي وَهَذَا آخِرُ مَا قَالَهُ، وَقَدْ كَانَ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: يَبْتَدِئُ ثُمَّ رَجَعَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ: يَبْنِي وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ.
قَالَ: وَإِنْ كَانَ فِي زَمَنِ الْخَوْفِ، فَلَا يَعْتَكِفُ وَلَا يَدَعُ مَا خَرَجَ لَهُ مِنْ الْغَزْوِ وَيَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ مِنْ الِاعْتِكَافِ.
قَالَ سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّهُ اضْطَرَبَ بِنَاءٌ يُبَاتُ فِيهِ، وَلَمْ أَرَهُ إلَّا فِي رَحَبَةِ الْمَسْجِدِ.
قَالَ عُقْبَةُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الِاعْتِكَافَ فِي مَسَاجِدِ الْمُوَادِّينَ؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا رَصَدَةٌ وَعُدَّةٌ لَهَا فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ فَلَا اعْتِكَافَ أَفْضَلُ مِمَّا هُمْ فِيهِ.

.فِي الْمُعْتَكِفِ يَمُوتُ وَيُوصِي أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ:

قُلْتُ: أَرَأَيْتَ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافًا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْتَكِفَ فَأَوْصَى أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ؟
فَقَالَ: يُطْعَمُ عَنْهُ فِي رَأْيِي وَيُطْعَمُ عَدَدَ الْأَيَّامِ مَسَاكِينُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مُدٌّ.
قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ مَرِيضًا لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافًا أَيَّامًا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ، أَيُطْعَمُ عَنْهُ أَمْ لَا وَقَدْ أَوْصَى فَقَالَ: أَطْعِمُوا عَنِّي عَنْ اعْتِكَافِي الَّذِي نَذَرْتُ إنْ كَانَ قَدْ لَزَمَنِي؟
فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يُطْعَمُ عَنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ.

.فِي نَذْرِ الِاعْتِكَافِ:

قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا أَيَكُونُ ذَلِكَ يَوْمًا دُونَ لَيْلَتِهِ؟
فَقَالَ: لَا وَذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: أَقَلُّ الِاعْتِكَافِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ.
قَالَ سَحْنُونٌ وَقَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَذَكَرَهُ ابْنُ نَافِعٍ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: بَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْهُ فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ أَقَلُّ الِاعْتِكَافِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَلَمْ يَرَهُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَا أَرَى اعْتِكَافًا دُونَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ قُلْتُ لِابْنِ الْقَاسِمِ أَرَأَيْتَ إنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً؟
فَقَالَ: عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَلَيْلَةً.
قَالَ: وَهَذَا حِينَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اللَّيْلَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ النَّهَارُ.
قُلْتُ: مَا قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا أَلَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ؟
فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ.
قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟
فَقَالَ: لَا، قِيلَ: وَيَكُونُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي هَذَا اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ؟
فَقَالَ: نَعَمْ.
قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إنْ قَالَ رَجُلٌ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَعْبَانَ فَمَضَى شَعْبَانُ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ فَرَّطَ فِيهِ، أَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ قَدْ نَذَرَتْ ذَلِكَ فَحَاضَتْ فِي شَعْبَانَ؟
قَالَ: أَمَّا الَّتِي حَاضَتْ فَإِنَّهَا تَصِلُ قَضَاءً بِمَا اعْتَكَفَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ تَصِلْ اسْتَأْنَفَتْ.
قَالَ: وَأَمَّا الرَّجُلُ الْمَرِيضُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إنْ تَمَادَى بِهِ الْمَرَضُ حَتَّى يَخْرُجَ الشَّهْرُ مِثْلُ مَنْ نَذَرَ صَوْمًا فَمَرِضَهُ.
قَالَ: وَلَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ حَجَّ عَامٍ بِعَيْنِهِ أَوْ صِيَامَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، فَمَرِضَهُ أَوْ حَبَسَهُ أَمْرٌ مِنْ اللَّهِ لَمْ يُطِقْ ذَلِكَ فِيهِ؟
فَقَالَ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لَهُمَا، فَالِاعْتِكَافُ مِثْلُهُ وَاَلَّذِي فَرَّطَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ شَهْرًا كَامِلًا مَكَانَ شَعْبَانَ.
قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟
فَقَالَ: قَالَ مَالِكٌ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَلْيَصُمْهُ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَأَرَى الِاعْتِكَافَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ.
قُلْتُ: فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ أَيَّامَ النَّحْرِ؟
قَالَ: لَا أَرَى عَلَيْهِ اعْتِكَافًا؛ لِأَنَّهُ نَذَرَ مَا قَدْ نَهَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ صِيَامِهِ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ.
قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إنْ قَالَ رَجُلٌ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ الْفُسْطَاطِ شَهْرًا فَاعْتَكَفَهُ بِمَكَّةَ أَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ؟
قَالَ: نَعَمْ وَلَا يَخْرُجُ إلَى مَسْجِدِ الْفُسْطَاطِ وَلَا يَأْتِيهِ، وَلْيَعْتَكِفْ فِي مَوْضِعِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ إلَّا إلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَإِيلْيَاءَ.
قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إنْ قَالَ الرَّجُلُ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ شَهْرًا أَيُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ الْفُسْطَاطِ؟
فَقَالَ: لَا يُجْزِئُهُ قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ؟
فَقَالَ: قَالَ مَالِكٌ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ الرَّسُولِ يُصَلِّي فِيهِ، فَلْيَأْتِهِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ.
قَالَ: وَهَذَا لَمَّا نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِيهِ فَقَدْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَهُ.

.فِي خُرُوجِ الْمُعْتَكِفِ وَطَعَامِهِ وَدُخُولِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَعَمَلِهِ:

قَالَ سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ كَانَتْ إذَا اعْتَكَفَتْ لَا تَسَلْ عَنْ الْمَرِيضِ إلَّا وَهِيَ تَمْشِي وَلَا تَقِفُ.
قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يَأْتِي الْمُعْتَكِفُ حَاجَةً وَلَا يَخْرُجُ إلَيْهَا وَلَا يُعِينُ أَحَدًا أَنْ يَخْرُجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَوْ كَانَ خَارِجًا لِشَيْءٍ لَكَانَ أَحَقُّ مَا يَخْرُجُ إلَيْهِ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ وَالصَّلَاةَ عَلَى الْجَنَائِزِ وَاتِّبَاعَهَا.
قَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ الْمُعْتَكِفُ مُعْتَكِفًا حَتَّى يَجْتَنِبَ مَا يَجْتَنِبُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَاتِّبَاعِهَا وَدُخُولِ الْبَيْتِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا اعْتَكَفَ لَمْ يَدْخُلْ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَسَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ الرَّجُلِ الْمُعْتَكِفِ هَلْ يَذْهَبُ لِحَاجَتِهِ تَحْتَ سَقْفِ بَيْتٍ؟
فَقَالَ: نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.

.(فِي الْمُعْتَكِفِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ):

فِي الْمُعْتَكِفِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيتَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ:
قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُنْكَرُ الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ تُجْمَعُ فِيهِ الْجُمُعَةُ قَالَ: وَلَا أَرَاهُ كَرِهَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَا تُجَمَّعُ فِيهَا الْجُمَعُ إلَّا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَخْرُجَ الْمُعْتَكِفُ مِنْ مَسْجِدِهِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ إلَى الْجُمُعَةِ أَوْ يَدَعَهَا.
قَالَ: فَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا لَا تُجَمَّعُ فِيهِ الْجُمُعَةُ وَلَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ إتْيَانُ الْجُمُعَةِ فِي مَسْجِدٍ سِوَاهُ، فَإِنِّي لَا أَرَى بَأْسًا فِي الِاعْتِكَافِ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فَعَمَّ اللَّهُ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا وَلَمْ يَخُصَّ مِنْهَا شَيْئًا.
قَالَ مَالِكٌ: فَمِنْ هُنَالِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَا تُجَمَّعُ فِيهَا الْجُمُعَةُ: إذَا كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُجَمَّعُ فِيهَا الْجُمَعُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَبِيتُ الْمُعْتَكِفُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ خِبَاؤُهُ فِي رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ، الْمَسْجِدِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّهُ لَا يَبِيتُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ قَوْلُ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إذَا اعْتَكَفَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ».
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: وَسَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ هَلْ يَعُودُ الْمُعْتَكِفُ مَرِيضًا وَيَشْهَدُ جِنَازَةً؟
فَقَالَ: لَا.
قَالَ ابْنُ نَافِعٍ وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا شَهِدَ الْمُعْتَكِفُ جِنَازَةً أَوْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ أَحْدَثَ سَفَرًا أَوْ بَعْضَ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ اعْتِكَافِهِ، فَمَنْ صَنَعَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الِابْتِدَاءُ وَلَا يَنْفَعُهُ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَطَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ.

.فِي الْمُعْتَكِفِ يُخْرِجُهُ السُّلْطَانُ لِخُصُومَةٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَارِهًا:

قَالَ ابْنُ نَافِعٍ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُعْتَكِفِ: إنْ أَخْرَجَهُ قَاضٍ أَوْ إمَامٌ لِخُصُومَةٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَارِهًا، فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَسْتَأْنِفَ اعْتِكَافَهُ وَإِنْ بَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ اعْتِكَافِهِ أَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي وَلَا لِلْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجَ مُعْتَكِفًا لِخُصُومَةٍ وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ اعْتِكَافِهِ، إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ لِلْإِمَامِ أَنَّهُ إنَّمَا اعْتَكَفَ لِلِّوَاذِ فِرَارًا مِنْ الْحَقِّ فَيَرَى فِي ذَلِكَ رَأْيَهُ.
قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْمُعْتَكِفِ أَيَدْخُلُ الْأَسْوَاقَ لِيَشْتَرِيَ مَا يَصْلُحُهُ مِنْ عَشَائِهِ وَمِمَّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ؟
فَقَالَ: لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ الْمَسْجِدِ لِيَشْتَرِيَ طَعَامًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يُعِدُّ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَا يَصْلُحُهُ.
قَالَ: وَلَا أَرَى لِلَّذِي لَا يَقْوَى أَنْ يَعْتَكِفَ وَلَا يَعْتَكِفُ إلَّا مَنْ كَانَ مَكْفِيًّا حَتَّى لَا يَخْرُجَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ لِغَائِطٍ أَوْ لِبَوْلٍ، فَإِنْ اعْتَكَفَ وَهُوَ غَيْرُ مَكْفِيٍّ فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا أَنْ يَخْرُجَ يَشْتَرِي طَعَامَهُ ثُمَّ يَرْجِعَ وَلَا يَقِفَ مَعَ أَحَدٍ وَلَا يُحَدِّثُهُ.
قَالَ مَالِكٌ: وَالْمُعْتَكِفُ مُشْتَغِلٌ بِاعْتِكَافِهِ وَلَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِ مِمَّا يُشْغِلُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ التِّجَارَاتِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ الْمُعْتَكِفُ بِضَيْعَتِهِ وَضَيْعَةِ أَهْلِهِ وَمَصْلَحَتِهِ وَبَيْعِ مَالِهِ أَوْ شَيْءٍ لَا يَشْغَلُهُ فِي نَفْسِهِ، كُلُّ ذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ خَفِيفًا أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ مَنْ يَكْفِيهِ إيَّاهُ.
قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ وَلَا أَحَدًا مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا ابْنَ الْمُسَيِّبِ، وَلَا أَحَدًا مِنْ التَّابِعِينَ وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ أَدْرَكْتُ مِمَّنْ أَقْتَدِي بِهِ اعْتَكَفَ، وَلَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَقَامَ زَمَانًا طَوِيلًا فَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّهُ اعْتَكَفَ، إلَّا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَلَسْتُ أَرَى الِاعْتِكَافَ حَرَامًا فَقِيلَ لِمَ تُرَاهُمْ تَرَكُوهُ؟
فَقَالَ: أُرَاهُ لِشِدَّةِ الِاعْتِكَافِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ سَوَاءٌ.
وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ الْوِصَالِ، فَقَالُوا لَهُ إنَّكَ تُوَاصِلُ؟ فَقَالَ: «إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أَبَيْتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي».
وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ حِينَ ذَكَرَتْ الْقُبْلَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ صَائِمٌ فَقَالَتْ: وَأَيُّكُمْ أَمْلَكُ لِإِرْبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْوُونَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا كَانَ يَقْوَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ فِي بَيْتِهِ، وَلَكِنْ لِيَتَّخِذْ مَخْرَجًا فِي غَيْرِ بَيْتِهِ وَدَارِهِ قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ أَنَّ خُرُوجَهُ إلَى بَيْتِهِ ذَرِيعَةٌ إلَى النَّظَرِ إلَى امْرَأَتِهِ وَأَهْلِهِ وَإِلَى النَّظَرِ فِي ضَيْعَتِهِ لِيَشْتَغِلَ بِهِمْ، وَقَدْ كَانَ مَنْ مَضَى مِمَّنْ كَانَ يَعْتَكِفُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ يَتَّخِذُ بَيْتًا قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ سِوَى بَيْتِهِ، فَأَمَّا الرَّجُلُ الْقَرِيبُ الْمُجْتَازُ فَإِنَّهُ إذَا اعْتَكَفَ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ حَيْثُ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ، وَلَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَتَبَاعَدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ اعْتَكَفَ فَكَانَ يَذْهَبُ لِحَاجَتِهِ تَحْتَ سَقِيفَةٍ فِي حُجْرَةٍ مُغْلَقَةٍ فِي دَارِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ حَتَّى يَشْهَدَ الْعِيدَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: وَبَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْفَضْلِ الَّذِينَ مَضَوْا، أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَشْهَدُوا الْعِيدَ مَعَ النَّاسِ وَهُوَ الَّذِي أَرَى، فَقِيلَ لِمَالِكٍ: أَيَذْهَبُ إلَى بَيْتِهِ فَيَلْبَسُ ثِيَابَهُ؟
قَالَ: لَا وَلَكِنْ يُؤْتَى بِثِيَابِهِ إلَى الْمَسْجِدِ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حِينَ يَعْتَكِفُ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ حِينَ يُمْسِي مِنْ اعْتِكَافِهِ.
قَالَ: وَإِنَّمَا يَجْلِسُ حَتَّى يُصْبِحَ مَنْ اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَتِلْكَ السُّنَّةُ أَنْ يَشْهَدَ الْعِيدَ مِنْ مَكَانِهِ ثُمَّ يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ.
قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي الِاعْتِكَافِ: إنَّ ذَلِكَ يُعْجِبُنِي وَعَلَى ذَلِكَ رَأَيْتُ أَمْرَ النَّاسِ، أَنْ يَدْخُلَ الَّذِي يُرِيدُ الِاعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ مِنْ لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَيُصَلِّي الْمَغْرِبَ فِيهِ، ثُمَّ يُقِيمُ فَيَخْرُجُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْعِيدِ إلَى أَهْلِهِ وَذَلِكَ أَحَبُّ الْأَمْرِ إلَيَّ فِيهِ.
قَالَ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْمُعْتَكِفِ، أَتَأْتِيهِ امْرَأَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ فَتَأْكُلُ مَعَهُ وَتُحَدِّثُهُ وَتُصْلِحُ رَأْسَهُ؟
فَقَالَ: قَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا مَا لَمْ يَمَسَّهَا أَوْ يَتَلَذَّذْ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَذَلِكَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ».
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَحَدَّثَ الْمُعْتَكِفُ مَعَ مَنْ يَأْتِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُكْثِرَ.
قَالَ سَحْنُونٌ وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ: إنْ كَانَ الْمُعْتَكِفُ حَكَمًا فَلَا أَرَى أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَحَدٍ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ إلَّا بِالشَّيْءِ الْخَفِيفِ.
قَالَ سَحْنُونٌ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْمُعْتَكِفِ يَدْخُلُ الْبَيْتَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَتَلَقَّاهُ صَبِيُّهُ فَيُقَبِّلُهُ أَوْ يَشْرَبُ مَاءً وَهُوَ قَائِمٌ؟
قَالَ مَالِكٌ: لَا أُحِبُّ ذَلِكَ لَهُ وَأُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ سَعَةٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ بَيْنَ يَدَيْ الْبَابِ، وَلَكِنْ لِيَأْكُلْ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ وَاسِعٌ.
قَالَ سَحْنُونٌ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْمُعْتَكِفِ يَكُونُ بَيْتُهُ قَرِيبًا مَنْ الْمَسْجِدِ جِدًّا أَفَيَأْكُلُ فِيهِ؟
قَالَ: لَا يَأْكُلُ الْمُعْتَكِفُ وَلَا يَشْرَبُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، فَقِيلَ لَهُ: أَيَأْكُلُ فِي رَحَبَةِ الْمَسْجِدِ؟
فَقَالَ: نَعَمْ رَحَبَةُ الْمَسْجِدِ مُتَّصِلَةٌ بِالْمَسْجِدِ يُصَلِّي فِيهَا، فَقِيلَ لَهُ أَفَوْقَ ظَهْرِ الْمَسْجِدِ؟
فَقَالَ: لَا يَأْكُلُ الْمُعْتَكِفُ فَوْقَ ظَهْرِ الْمَسْجِدِ وَلَا يُقَبِّلُ فَوْقَهُ.
قال سَحْنُونٌ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ.
قُلْتُ لِمَالِكٍ: أَفَيُقِيمُ الْمُعْتَكِفُ الْمُؤَذِّنُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُؤَذِّنِينَ أَصْحَابِهِ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ: إنَّهُ يُقِيمُ الصَّلَاةَ ثُمَّ يَمْشِي إلَى الْإِمَامِ وَذَلِكَ عَمَلٌ.
قَالَ سَحْنُونٌ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَمْشِي الْمُعْتَكِفُ إلَى نَاسٍ فِي الْمَسْجِدِ لِيُصْلَحَ بَيْنَهُمْ، وَلَا لِيَنْكِحَ امْرَأَةً هُوَ لِنَفْسِهِ وَلَا لِيُنْكِحَهَا غَيْرَهُ، فَإِنْ جَاءُوهُ فِي مُعْتَكَفِهِ فَنَكَحَ أَوْ أَنْكَحَ أَوْ أَصْلَحَ بَيْنَ قَوْمٍ فَلَا بَأْسَ إذَا كَانَ خَفِيفًا.

.وَهَذَا مَا جَاءَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ:

قَالَ سَحْنُونٌ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: وَسَمِعْتُ مَنْ أَثِقُ بِهِ يَقُولُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي بَلَغَهُ غَيْرُهُمْ مِنْ طُولِ الْعُمُرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ الْمُسَيِّبِ كَانَ يَقُولُ: مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا.
قال سَحْنُونٌ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَمَالِكٌ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ».
قَالَ: أَرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّاسِعَةِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَبِالسَّابِعَةِ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَبِالْخَامِسَةِ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ.
قَالَ وَحَدَّثَنَا سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.
قَالَ حَدَّثَنَا عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي رَجُلٌ شَاسِعُ الدَّارِ فَمُرْنِي بِلَيْلَةٍ أَنْزِلُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ».

.كِتَابُ الزَّكَاةِ الْأَوَّلُ:

.فِي زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ:

قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ: مَا قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَيُؤْخَذُ مِنْهُ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ بِحِسَابِ ذَلِكَ؟
فَقَالَ: نَعَمْ مَا زَالَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَفِيهِ رُبْعُ عُشْرِهِ.
قُلْتُ: فَمَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي رَجُلٍ لَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ؟
فَقَالَ: عَلَيْهِ الزَّكَاةُ.
قُلْتُ: فَمَا قَوْلُهُ فِي رَجُلٍ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَتِسْعَةُ دَنَانِيرَ قِيمَةُ التِّسْعَةِ دَنَانِيرَ مِائَةُ دِرْهَمٍ؟
فَقَالَ: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا.
قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّمَا يُنْظَرُ فِي هَذَا إلَى الْعَدَدِ إذَا تَكَافَأَ كُلُّ دِينَارٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَلَّتْ الدَّنَانِيرُ أَوْ كَثُرَتْ، إنَّمَا يُجْعَلُ كُلُّ دِينَارٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الدَّرَاهِمُ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَتْ تِسْعَةَ دَنَانِيرَ وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَأُخِذَ مِنْ الْفِضَّةِ رُبْعُ عُشْرِهَا وَمَنْ الدَّنَانِيرِ رُبْعُ عُشْرِهَا وَهَكَذَا جَمِيعُ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَلَا تُقَامُ الدَّنَانِيرُ بِالدَّرَاهِمِ.
قَالَ سَحْنُونٌ قَالَ أَشْهَبُ: وَإِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ يُجْمَعُ فِيهَا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ كَمَا يُجْمَعُ فِي زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ الضَّأْنُ إلَى الْمَعْزِ وَالْجَوَامِيسُ إلَى الْبَقَرِ، وَالْبُخْتُ إلَى الْإِبِلِ الْعِرَابِ.
قال سَحْنُونٌ: وَهِيَ فِي الْبَيْعِ أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ وَلَكِنَّهَا تُجْمَعُ فِي الزَّكَاةِ.
قَالَ: وَالْعَشَرَةُ دَرَاهِمُ بِالدِّينَارِ أَبَدًا، وَالدِّينَارُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي الزَّكَاةِ أَبَدًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ زَكَاةٌ» وَالْأُوقِيَّةُ مِنْ الْفِضَّةِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ» فَعُلِمَ أَنَّ الدِّينَارَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ.
قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ دَنَانِيرُ وَتِبْرٌ مَكْسُورٌ.
يَكُونُ وَزْنُ التِّبْرِ عِشْرِينَ دِينَارًا كَانَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ وَأُخِذَ مِنْ الدَّنَانِيرِ عُشْرُهَا وَمَنْ التِّبْرِ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ الدَّرَاهِمُ وَالتِّبْرُ.
قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ كَانَ لَهُ دَنَانِيرُ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ زَكَاةِ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ بِقِيمَتِهَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الدَّنَانِيرَ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَيَتْجُرُ فِيهَا فَتَصِيرُ عِشْرِينَ دِينَارًا بِرِبْحِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمَيْنِ، أَيُزَكِّيهَا إذَا حَالَ الْحَوْلُ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قُلْتُ: وَلِمَ وَلَيْسَ أَصْلُ الدَّنَانِيرِ نِصَابًا؟ قَالَ؛ لِأَنَّ رِبْحَ الدَّنَانِيرِ هَهُنَا مِنْ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ غِذَاءِ الْغَنَمِ مِنْهَا الَّتِي وَلَدَتْهَا، وَلَمْ يَكُنْ أَصْلُهَا نِصَابًا فَوَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ بِالْوِلَادَةِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الدَّنَانِيرُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ بِالرِّبْحِ فِيهَا.
قُلْتُ: فَإِنْ كَانَتْ لَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ عِنْدَهُ فَاشْتَرَى بِخَمْسَةٍ مِنْهَا سِلْعَةً وَأَنْفَقَ الْخَمْسَةَ الْبَاقِيَةَ.
ثُمَّ بَاعَ السِّلْعَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ أَوْ بَعْدَ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا؟
قَالَ: إنَّهُ يُزَكِّي الْخَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا نِصْفَ دِينَارٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ عِشْرُونَ دِينَارًا فَأَقْرَضَهَا رَجُلًا ثُمَّ اقْتَضَى مِنْهَا خَمْسَةً بَعْدَ سَنَةٍ، ثُمَّ اقْتَضَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ الْبَاقِيَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ أَوْ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يُزَكِّيهَا سَاعَةَ يَقْتَضِيهَا نِصْفَ دِينَارٍ.
قُلْتُ: فَإِنْ أَنْفَقَ خَمْسَةً مِنْ الْعَشَرَةِ ثُمَّ اشْتَرَى سِلْعَةً بِالْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ فَبَاعَهَا بَعْدَ أَيَّامٍ أَوْ بَعْدَ سِنِينَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا؟
فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَبِيعَهَا بِعِشْرِينَ دِينَارًا.
قال سَحْنُونٌ: وَقَدْ احْتَجَّ مَنْ يُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ الَّتِي حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَاشْتَرَى سِلْعَةً بِخَمْسَةٍ وَأَنْفَقَ خَمْسَةً، أَوْ أَنْفَقَ خَمْسَةً وَاشْتَرَى سِلْعَةً بِخَمْسَةٍ وَبَاعَهَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ، إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ وَاحِدٌ وَأَصْلٌ وَاحِدٌ حَالَ عَلَى جَمِيعِهِ الْحَوْلُ، وَلَوْ كَانَتْ الْعَشَرَةُ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا الْحَوْلُ حَتَّى اشْتَرَى بِخَمْسَةٍ مِنْهَا سِلْعَةً ثُمَّ أَنْفَقَ الْخَمْسَةَ، أَوْ أَنْفَقَ الْخَمْسَةَ ثُمَّ اشْتَرَى بِالْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ سِلْعَةً لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَبِيعَهَا بِعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ مَا أَنْفَقَ قَبْلَ الْحَوْلِ لَا يُحْسَبُ فَكَمَا لَا يُحْسَبُ مَا أَنْفَقَ قَبْلَ الْحَوْلِ فَكَذَلِكَ لَا يُتْرَكُ أَنْ يُحْسَبَ مَا أَنْفَقَ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ بَعْدَ الشِّرَاءِ.
قَالَ: وَسَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ الذَّهَبِ يَكُونُ لِلرَّجُلِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَيَبِيعُهَا بَعْدَمَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ هَلْ تَرَى فِيهَا زَكَاةً؟
فَقَالَ: نَعَمْ سَاعَةَ إذْ وَلَا يُؤَخِّرْ ذَلِكَ، قَالَ أَشْهَبُ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ ثَلَاثُونَ ضَائِنَةً حَلُوبًا، أَوْ عِشْرُونَ مِنْ الْجَوَامِيسِ أَوْ أَرْبَعَةٌ مِنْ الْبُخْتِ، فَبَاعَ الضَّأْنَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْمُصَدِّقُ بِأَرْبَعِينَ مِنْ الْمَعْزِ وَهِيَ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الدَّرِّ، أَوْ بَاعَ الْجَوَامِيسَ بِثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ أَوْ بَاعَ الْبُخْتَ بِخَمْسَةٍ مِنْ الْعِرَابِ، فَإِنَّ السَّاعِيَ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا إبِلٌ كُلُّهَا وَبَقَرٌ كُلُّهَا وَغَنَمٌ كُلُّهَا، وَسُنَّتُهَا فِي الزَّكَاةِ أَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْبُيُوعِ مُخْتَلِفَةٌ.
قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَدَقَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّرْعِ وَالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ حَتَّى يَكُونَ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلَا فِي الرِّقَةِ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ».
قَالَ أَشْهَبُ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فِي كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِي كُلِّ عِشْرِينَ مِثْقَالًا ذَهَبًا نِصْفُ مِثْقَالٍ».
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَأَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ الْأَزْدِيُّ وَالْحَارِثُ بْنُ نَبْهَانَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، وَالْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَاتُوا إلَيَّ رُبْعَ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا وَلَيْسَ عَلَيْك شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ لَك مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَإِذَا كَانَ لَك مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ عَلَيْك شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا، فَإِذَا كَانَتْ لَكَ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ، فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ».
قَالَ: فَلَا أَدْرِي أَعَلِيٌّ يَقُولُ بِحِسَابِ ذَلِكَ أَمْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إلَّا أَنَّ جَرِيرًا قَالَ: فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ: «وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِي كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ وَذَكَرَ سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بِمِثْلِ قَوْلِ عَلِيٍّ فِيمَا زَادَ.